ابراهيم Member
سجل فى : 12/02/2008
المساهمات : 14137 العمر : 30 التقييم : 60
| | ويسألونك عن حظوظ النفس | |
عندما أمر القرآن الكريم المؤمنين بابتغاء الدار الآخرة وترك لهم "حظا" ونصيبا من الدنيا جعل بعض المؤمنين الدنيا كلها من "نصيبهم" وفقدوا الثقة في الله، مع أنهم يعلمون أن الثقة في الله عبادة عظيمة، لكن المشكلة أن الإنسان مجبول على المسارعة إلى "الثقة" في ما تلمسه يده لا في ما يحسه قلبه والمؤمنون –كغيرهم من الناس إلأّ من رحم ربي- واقعون في لعبة توسيع دائرة حظوظهم من الدنيا، مما كان له أبلغ الأثر في تعميق الأزمة التربوية (من منطلقات عقائدية أحيانا ومن ضغط حاجات نفعية أحيانا أخرى)، والحقيقة أن هذا الجانب الخفي في النفس البشرية، يغفل عنه كثيرون من القائمين على شأن التربية، فيجانبهم التوفيق، لأنهم أهملوا أهم عنصر في عملية الربط التربوي وهي ثقة الناس بما عند الله، ولو كان ما بأيدي الناس أقرب إلى نفعهم، في نظر أنفسهم 1. ويسألونك عن حظوظ النفس : لكي نفهم هذا الدرس البليغ أقدم بعض الأمثلة الشارحة، فقد تعلمنا من بعض "الماديين" قولهم : "عصفور في اليد خير من ألف فوق الشجرة" ومعناه عندهم أن القليل الملموس خير من الكثير المتخيل، وأن دينارا تراه عيناك البصيرة خير من ألف دينار يدك عنها قصيرة، وهذه "فلسفة" مادية تتعارض مع عقيدة الثقة في الله القائل : "يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبهم خيرًا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم. ويغفر لكم والله غفور رحيم"
والكل يعلم مناسبة نزول هذه الآية، ذلك أن بعض أسرى بدر كان من علْية القوم ومن أشرافهم، ومن أثريائهم..وبعضهم كان من أقارب الرسول (ص) كالعباس بن عبد المطلب (عم رسول الله) وعقيل بن أبي طالب (ابن عم رسول الله) وأبي العاص بن الربيع (صهر رسول الله : زوج زينب رضي الله عنها)...وسواهم، فقد زعم بعضهم أنه فقير وأنه بلا مال وأن قومه استكرهوه على القتال، كما زعم بعضهم أنه عاجز عن دفع فديته وأن بإمكان الرسول (ص) أن يفديه بماله، كما ظن آخرون أن رسول الله يمكن أن يشفع فيه لقرابته..فما كان من رسول الله (ص) إلاّ معاملة الجميع على قدم المساواة، بل إن البعض قد جُعلت فديتهم ضعفين وثلاثة أضعاف.. لأنهم كانوا موسرين (فقد كانت الفدية أربعين أوقية، فجُعل على العباس بن عبد المطلب مائة وعلى عقيل ثمانون..) فلما أحسّ بعض الأسرى بالغبن نزلت هذه الآيات، فقال العباس –بعد إسلامه- رضي الله عنه : لو كنت أعلم أن الله يضاعفها لوددت أن أخذت مني أضعافها حتى يعوضني الله، أضعافا مضاعفة.. لقوله تبارك وتعالى : " يؤتكم خيرا مما أخذ منكم " بسبب الثقة المطلقة في الله إذا علم في قلوب الواثقين خيرا، أما المتلاعبون بهذه العقيدة الخفية فقد كشف الله سرهم وهتك سترهم بقوله : " وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ".وقبل بسط الحديث التربوي حول هذا المعنى من حظوظ النفس ومن نصيب الدنيا.. أرى مفيدا أن أسوق بين يدي هذا السياق التربوي قصة بليغة تدمع لها العين ويرق لها القلب.. حدثت للرسول (ص) مع صهره إبي العاص بن الربيع (زوج ابنته زينب)، حيث بعثت زينب بنت رسول الله (ص) من مكة المكرمة فداء لزوجها، وكان من بين ما بعثت به " قلادة" لها أهدتها إياها أمها خديجة (رض الله عنها) بمناسبة عرسها، فلما رأى الرسول (ص) القلادة التي اهتدتها لابنتها زينب (قلادة زوجه خديجة) عرفها فرق لها قلبه وتذكر ما كان من زوجته خذيجة (رض الله عنها) فقال لأصحابه(عليهم الرضوان) : " إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها" فاستجابوا لملتمس رسول الله (ص) فأخذ على صهره إبن العاص بن الربيع عهدا أن يخلي سبيل إبنته زينب لتلتحق به بالمدينة المنورة ..ففعل .وهي قمة الثقة في الله، وذروة العدل والإحسان للناس..إن هذه اللقطة التربوية الفريدة جديرة أن نتعلم منها ما لا يُحصى من الدروس والعبر كونها "شامة" في جبين الصحابة عليهم الرضوان في السمع والطاعة والإيثار، ذلك إن مثل هذه المشاهد المؤثرة لم يعد لها وجود نموذجي في واقع الحياة الإسلامية اليوم إلا في صور نادرة التردد مما يجعل "الدعوة إلى إعادة بناء النموذج " واجب وقت، ذلك أن النفس البشرية صعبة المراس، خاصة إذا تعلق الأمر بحظوظها، واتسعت دوائر رغباتها وطموحاتها.. فعندئذ لا تهذبها إلا وسيلتان:* دين مستحكم يأخذ بمجامع القلوب ومكامن النفوس.* أو شوكة قابضة تغلق على الشهوات والشبهات منافذ العقل والنفس.والله تعالى قد إختار لنا الوسيلة الأولى (دعوة وعبادة وتربية وسلوكا) وقد كشف لنا أن النفس البشرية – مهما روضتها بالضخ التربوي والدعوي – تظل بها بعض العوالق من استعجال حب الدنيا : " وإنه لحب الخير لشديد ". وقد خُلق الإنسان من عجل..لقد كشفت الآيات السابقة عن مخبوء النفس البشرية حتى في تكوين بعض الصحابة (عليهم الرضوان)، فلقد كان بعضهم يجهز على المشرك ليقتله ثم يرفع عنه السيف قبل إثخانه ليحتجزوهم أسرى وينالوا منهم الفداء، "تريدون عرض الدنيا"، مع أن بعضهم كان يستحق القتل لأنه ليس "أسير حرب بل هو مجرم حرب" والفرق واضح بينهما في الأعراف العسكرية.لأجل ذلك نزل العتاب القرآني مربيًا ومقرَّعا ومؤدبا.. ليكشف عن هذه "الحيلة" البشرية الحريصة على توفير شيء من "حظ النفس" التي جعلت الصحابة يختلفون حول اقتسام غنائم بدر "وتسوء فيها أخلاقهم" بتعبير أحد الصحابة عليهم الرضوان، فلما استشار رسول الله (ص) أصحابه (رضي الله عنهم) في كيفيات التصرف مع الأسرى ذهبوا ثلاثة مذاهب :- مذهب الفدية مقابل إطلاق سراحهم فورا- ومذهب القتل نكالا وعبرة لمن هم خلفهم من مشركين.- ومذهب تسخيرهم في تعليم القرأة والكتابة لأبناء الإسلام.ولأن في مذهب الفدية، كما في مذهب الاستعانة بالمشركين شيئًا من حظوظ النفس –ولو كانت النية حسنة- فقد نزل القرآن الكريم مربيا ومعاتبا ومقرعا وكاشفا حقيقة نوايا الذين "تحايلوا" فلم يقتلوا "مجرمي الحرب"، ولم يستأصلوا شأفة "أئمة الكفر" ليفوتوا الفرصة على من لم تتأصل الثقة في الله في عمق عقيدتهم، ولم يثخنوا في الأرض، أو الذين تعاطفوا مع بعض ذوي أرحامهم من المشركين، مع أن الرسول (ص) قدم لهم القدوة في عمه العباس وإبن عمه عقيل..فقد كانت طبيعة المعركة (كونها الأولى بين المسلمين والمشركين) تقتضي الشدة والإثخان في الأرض.. فقال جل جلاله : "ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض. تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم".وقد روى سيدنا عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) أطرافا مما حدث من نقاش حول غنائم بدر، كما قص غيره من الصحابة أجزاء أخرى مما شاهده وسمعه..وخلاصة كل المرويات تصب في أربعة دروس بليغة، جاء عنوانها البارز في قوله تبارك وتعالى : "لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم" ثم عفا الله عنهم –كون الخلاف كان اجتهاديا ونشب قبل نزول النص -فقال: "فكلوا مما غنمتم حلالا طيبَا واتقوا الله إن الله غفور رحيم". 2- دروس من فقه حظ النفس : أكثر أنواع البلاء تأثيرَا على وحدة الصف، وعلى سلامة السير، وعلى عمل المؤسسات..هو تضخم "الأنا" واتساع دائرة حظوظ النفس..ومن ذلك أربعة أصناف من الناس يعيشون مع "الجماعة" فإذا لاحت بوادرالغنائم تضحت فيهم "الأنا" فخاصموا بغير حق..وهم : - أصحاب الريوع : وهو الدرس الأول الذي يكشف فيه الله تعالى عن غريزة مستحكمة في النفس البشرية تسمى "حظ النفس" من كل "غنيمة" تلوح في الأفق، ويبين أن العيب ليس في التطلع إلى نيل "الحظ النظيف" الذي يكتبه الله لك بطرق نظيفة وبطموح مشروع، وإنما العيب يكمن في تضخم "الأنا" وفي الوسائل المستخدمة لتحقيق الأهداف، وفي شدة الحرص على الوصول إلى هذا "الحظ" ولو على الجماجم والأشلاء، والخوف كل الخوف من المبالغة في تضخيم هذا الحظ حتى يصبح الهدف من وجودك داخل الصف –أو خارجه- هو فقط من أجل "الريوع" بجلب المنافع الشخصية وتكثيرها ولو على حساب المشروع، والبرنامج، والمؤسسات.- حساب الظاهر والباطن : والدرس الثاني هو أن ما تعتقده أنت سرًّا محجوبا عن الناس هو أمرمكشوف عند الله (الذي يعلم السر وأخفى) وإذا ما تحركت –داخل الجماعة أو ضمن مؤسساتها- بظاهر متعاون ومتضامن ولكنك تبطن ما الله أعلم به، فإن الله يبتليك بثلاث نهايات مؤسفة :أولها، حرمانك التوفيق وسلبك السداد والرشاد،وثانيها، ملء صدرك بالضيق والحسد والحرج والتوتر،وثالثها، انكشاف أمرك، ولو بعد حين، فيعرف الناس أنك كنت كمهاجر "أم قيس" !؟* الوسائل والغايات :وأما الدرس الثالث فهو الطمع الزائد عن الحد الذي يتسبب في تحويل الوسائل إلى غايات، وعندما تصبح بعض وسائلك أهدافا في حد ذاتها تجد نفسك قد فقدت أهلية الانتماء للحركة الإسلامية، بمعناها التنظيمي، الذي من مقتضياته الذوبان في روح المؤسسة والسمع والطاعة لقراراتها ونكران الذات لحساب مصلحة الجماعة، والتخلي عن الرأي الشخصي إذا صدر قرار المؤسسة.* لا حيلة مع الله : وأما الدرس الرابع والأخير، فتجسده الحكمة القائلة : "الحيلة في ترك الحيّل" ومعناها : أنه لا حيلة ولا تحايل مع الله، وأن التظاهر بالصلاح لا يجعل منك إنسانا صالحا، كما أن التمظهر بالزهد والتقشف لا ينقل "زهد أثوابك" إلى زهادة قلبك، وسلامة عقلك وطهارة نفسك..فما قيمتك إذا كنت تغرد خارج السرب؟ !فلا تخفي في نفسك ما الله مبديه، ولا تتصرف مع إخوانك بظاهر وباطن، ولا تخاطب الناس بمنطوق صالح لكن له مفهوم فاسد لا تكشف عنه حقائق الفعل ومقاصد لغة الخطاب..الخ. الخلاصة : إن أعظم درس نتعلمه من سياق هذه الآيات المربية، التي نزلت بمناسبة غزوة بدر الكبرى –كونها أول محطة يسجل فيها المسلمون انتصارًا كاسحا على معسكر المشركين ويستفيدون فيها من غنائم- هو درس "حظوظ النفس" المندرج في ثنائية النفس البشرية، أي في مدها وجزرها، وفي رضاها وسخطها، وفي عسرها ويسرها، وفي خوفها وطمعها، وفي منشطها ومكرهها، وفي كرمها وبخلها..وفي سرها وعلانيتها..وفي انبساطها وانقباضها..وفي جزعها ومنعها..ذلك : "إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا" وبين الجزع والمنع تكمن أسرار هذه النفس، وتتسع "حظوظها" أو تضيق.. ولا علاج لهذا الانحراف النفسي إلاّ الربانية والتسليم لقرارات المؤسسة (من داخل الشورى) وهي الآليات التي تذيب "الأنا" في محلول المؤسسة، فلا يبقى من حظوظ النفس إلاّ الثقة في الله ثم في المؤسسة التي "تهذبها" التربية، ويصقلها الإيمان، وتوجهها الأوامر والنواهي الربانية، وتحرك مخاوفها أهوال يوم الحساب..أما النفس البشرية –داخل المؤسسة- فتظل –في كل حالاتها- محتفظة برصيد من حظها الخاص، ومن نصيبها المعلوم : "و لا تنسَ نصيبك من الدنيا"، وهو نصيب نظيف تحدده المؤسسة لأنه محكوم بضوابط ومقيد بشروط، ومؤطر بأخلاق إسلامية رفيعة..وفي هذه الحالة، حتى لو تحدثت النفس بما لها من نصيب، لا يكون ذلك عيبا.. فالانحراف ليس في التطلع نحو المعالي بهمم عالية وطموحات غالية، وليس العيب في أن تتحدث النفس مع صاحبها عن طموحاته المشروعة ولكن العيب –بل الخطر المحدق- أن يتحول "حديث النفس" إلى أطماع زائدة عن الحد يجلب لها صاحبها الخيل والسوط والركاب..فيدخل الشيطان –من باب حظ النفس- و"يمني" أتباعه بكنوز بني العلقم..ويعدهم ويمنيهم.. وما يعدهم الشيطان إلاّ غرورا | |
|
الأربعاء 25 فبراير 2009, 7:59 pm من طرف قمر